الأربعاء

«سوق الغابة» في الخرطوم.. معرض في الهواء الطلق

على مساحة 200 متر مربع وتحت لافتة إعلانية ضخمة تقع أشهر سوق للمنحوتات الفنية والتراثية في العاصمة السودانية الخرطوم.
السودانيون يطلقون على هذه السوق اسم «سوق الغابة» نظرا لقرب موقعها من غابات السنط الممتدة على ضفاف النيل الأبيض بمنطقة المقرن في الخرطوم. وتجسد هذه السوق سحر الصورة الناطقة من خلال تحف أفريقية الملامح والهوى. بل، لقد اختارت هذه السوق أن تكون معرضا مفتوحا في الهواء الطلق، لا تحده أسوار، تُعرض فيه أعمال وإبداعات النحاتين السودانيين بحرية تامة أمام المارة والسياح الأجانب.
استحضر صلاح جمال، وهو نحات وبائع في «سوق الغابة»، تاريخ بدايتها الذي يعود إلى عام 1986، قائلا: «حضر وليم سودان، وهو تاجر منحوتات أفريقية، آتيا من جنوب السودان إلى الخرطوم، واختار هذا المكان الحالي للسوق، ومعه انطلقت رحلة تبادل تجاري وثقافي بين الشمال والجنوب عبر فن النحت».
وأضاف صلاح جمال أن «السوق اكتسبت بمرور الزمن شهرة محلية ودولية طيبة، جذبت إليها السياح من خارج البلاد؛ لذا تزدهر نشاطات السوق في موسم الشتاء، الذي هو موسم إقبال السياح الأجانب على السودان. وهؤلاء يندهشون لما ننتجه من أعمال فنية، ويثنون على مواهبنا الإبداعية بشراء ما يستطيعون حمله معهم إلى ديارهم. وهذا هو هدفنا لأن هذا الجانب من الجمال غير مرئي خارجيا».
وأكد صلاح جمال أن «زبائن السوق من السياح يفضلون القطع الفنية المصنوعة من خشب الأبنوس الأصلي لعلمهم أنه من أجود أنواع الأخشاب في العالم، ثم إن القطع التي تمثل المحاربين الأفريقيين تلقى رواجا شديدا، كما تجتذب الإكسسوارات الأفريقية اهتمام النساء السودانيات والسائحات الأجنبيات على حدٍّ سواء. أما السودانيون من مرتادي سوق الغابة فيفضلون دائما اقتناء قطع فنية تضفي على منازلهم روحا خاصة يصعب إيجادها إلا في هذه السوق». وللعلم، تنفرد سوق الغابة بصناعة «العصا» التي يتزين بها السودانيون من جميع الفئات؛ لأنها مكمل مهم لزينة الرجل السوداني، خاصة مع الجلابية.
من جهة ثانية، قال بشير مدني عثمان، وهو موظف متقاعد، لـ«الشرق الأوسط» عندما التقته: «حضرت إلى سوق الغابة من أجل شراء عصا من خشب الأبنوس هدية لصديق عربي طلبها مني، وهذه هي المرة الثانية التي أرسل إليه عصا ذات مقبض عاجي منحوت بحرفية عالية».
وعن أسعار القطع الفنية، شرح هيكتور بول، وهو بائع في السوق: «السعر يعتمد كثيرا على حجم القطعة ويتراوح بين 150 و450 جنيها سودانيا (يساوي الدولار الأميركي 2.5 جنيه سوداني) حتى لو كانت القطعة مصنوعة من أخشاب الأبنوس أو الموهوغوني أو التيك.. التي هي أجود أنواع الخشب على الإطلاق».
هذا، وعلى الرغم من مستوى الإبداع الفني المنتج، يجد الزائر أو السائح أن النحاتين العارضين لا يملكون مراسم لإنتاج أعمالهم أو أماكن ثابتة لعرضها في السوق، بل هم يتخذون من بعض الخيام المصنوعة من الجوالات والخيش خلف السوق مواقع لعملهم. وفيها ينهمكون بالنحت مستخدمين أدوات حادة من صنع أيديهم ومخيلتهم وصبرهم.. ليخرجوا إلى النور تحفا تراثية جميلة.
وفي لقاء مع النحات قرقين كول، قال عن تجربته: «تعلمت فن النحت من والدي، وفي عام 1993 احترفت العمل في سوق الغابة، وأنا أنجز قطعة أو قطعتين في اليوم الواحد، وأميل إلى نحت الفيل الأفريقي والعصا والمحاربين».
وتابع قرقين: «هذا النوع من الفن بدأ يتأثر سلبا؛ لأننا نعمل في أماكن غير مهيأة لهذا النوع من العمل، بالإضافة إلى أن المواد التي نستخدمها في المنحوتات، مثل العاج، أضحت نادرة؛ نظرا لحماية الفيلة وأنواع أخرى مهددة بالانقراض؛ لذا صرنا نستعيض عن العاج بالعظم. ثم هناك أزمة غلاء أسعار الخشب.. التي حملت كثرة من النحاتين على هجر هذا الفن والاتجاه نحو مهن أخرى، أو الذهاب للتنقيب عن الذهب المكتشف حديثا في عدد من أقاليم السودان. لكن الحدث الأكبر الذي أثر على سوق الغابة، بشكل خاص، هو عودة (معلمي النحت) الجنوبيين إلى الجنوب للمشاركة في تنمية دولتهم الوليدة».
على أي حال، لا تلعب سوق الغابة اليوم دورا جماليا وفنيا فحسب، بل إنها تساعد كثيرين من السودانيين العاملين في الخارج أو المتاجرين مع الخارج على أخذ إنتاج السوق من التحف الفنية لبيعها في دول مثل مصر وبعض دول الخليج، لزيادة ما لديهم من النقد الأجنبي - أو العملة الصعبة - الذي يصعب الحصول عليه الآن داخل السودان.