الاثنين

شركات التمويل العقارى خارج الإطار المصرفى... الدواعى والنهايات


عشرات المرات كانت تلك التى يستفسرنى فيها أصدقاء ومعارف عن جهة تستطيع أن تبنى بالأقساط أو تستثمر في الأرض بالبناء واسترجاع المبالغ عبر الإيجار. وكانت ثمرة تلك الحاجة الماسة لدى المجتمع أن ظهرت بعض الشركات التى تطرح بضاعتها في شكل عروض تمويل لتشييد العقارات .. كيف يجدر بنا أن ننظر لذلك الوضع غير التقليدى؟!

حسناً .. القصة لها كواليس لابد من معرفتها والتطرق إليها حتى يكون الميزان ميزان عدل والنظرة علمية وحيادية.

أولاً .. من المعلوم في السودان بالضرورة أن قطاع التشييد من القطاعات التى دارت عجلتها أخيراً مع قطار التنمية فضلاً عن أنه ذو رأس مال ضعيف أصلاً لا فائض له ليدير به عمليات تمويل عقارى تتطلب أموالاً طائلة لا عمل لها ثم انتظار بيضها ليفقس بعد سنين عددا، بل حتى إن توفر شئ من ذلك المال ستكون الأولوية لاستثماره في مشاريع حاضرة ذات عائد مادى سريع، فاذا علمنا بأن أى مشروع تشييد ذو بال مع مؤسسة رسمية أو شبه رسميه يتطلب مقدرة مالية لانجازه بنسبه لا تقل عن 40 % من قيمة المشروع يتم توفيرها في شكل ضمانات بنكية وهوامش مالية وسيولة نقدية لفك الإختنافات في المشروع لحين ميسرة، إذا علمنا ذلك .. تم التأكيد على عجز هذا القطاع عن تغطية هذه الحاجة .. حاجة التمويل العقارى.

ثانياً .. في بلد كثير التقلبات المالية وسريعها كالسودان .. تؤّمن المصارف الوطنية والأجنبية المنوط بها مسؤولية تمويل القطاعات المحركة للاقتصاد كالبناء والتشييد .. تؤمن تلك المصارف موقفها بوضع شروط وضوابط وإجراءات مالية تجعل تلك السلعة .. سلعة التمويل العقاري.. ينال ثمرتها فقط ذوى المقدرات المالية العالية، القادرين على توفير الضمانات المطلوبة وتوفير السيولة النقدية الكافية .. ثم لديهم ما يكفى من استثمارات ودخل ليستطيعوا سداد الأقساط الشهرية العالية ولفترات قصيرة مقارنة بحجم الأموال التى تحتاجها عمليات التشييد .. والى ذلك .. يكون القطاع المصرفي قد صار .. طوعاً أو كرهاً .. صار خارج إطار التمويل المصرفى لذوى الحوجه الحقيقية الذين يملكون أراضي ودخلاً معقولاً ولا يستطيعون تشييدها حتى يجور عليها الزمن وتفعل فيها الحوجة ما فعلته بقطع والدتى عليها رحمة الله وغفرانه.

ثالثاً .. أصحاب المصلحة والباحثون عن هذا التمويل طويل الأجل ذى الأقساط الميسرة هم في الغالب الموظفون الكبار والمعاشيون الجدد الذين فاجأهم واقع اللا عمل واللا سكن وقليل من المال ثمرة كدح السنين وقطعه أرض صانها وحفظها من أن يتحايل عليها الزمان. ثم المغتربين ذوى الدخل المتوسط ممن ملكوا الأراضى من مدخراتهم وتمنّع عليهم البناء من أن ينالوه. بهذه الأوصاف .. ومع صباح كل يوم يتجدد سؤال هؤلاء عن جهة للتمويل بعيداً عن المصارف و ( جرجرتها ).

رابعاً .. الدولة المنوط بها مساعدة هؤلاء ومن هم أدنى منهم بتوفير السكن الميّسر والتمويل المريح .. الدولة تعانى هى الأخرى من ضيق ذات اليد .. وإن توفّر في يدها تمويل فأولى به مشروعات البنيه التحتيه .. وهى المشروعات القومية التى تسبق الأهتمام المباشر بالمواطن. وقد انتبهت الحكومة مؤخراً لهذه المعضلة .. معضلة السكن .. فأسسّت صندوقاً للإسكان وإجتهدت في التمويل .. إلا أنه من الواضح أن المشروع يعانى من صعوبات إقتصادية تعانى منها كل الدولة ولم يبشر الناس بعد بواقع تتداوله مجالس المدنية.

خامسا .. مراكز البحوث والدراسات بالجامعات لم تشفى غليل إحتياج هذا البلد في شكل ومضمون المبانى المعقولة و المقبولة قليلة التكلفة .. وقد صار من المشهور أن يتحدث الناس في مجالس النقاش عن المبانى قليلة التكلفة .. لكن ذلك القليل تكلفته في الغالب لا يكون مرضياً لا شكلاً ولا مضموناً للطبقة التى لا تستطيع البناء الخرسانى المكّلف .. صحيح هى غير مستطيعة .. لكنها بأى حال من الأحوال لن ترضى بمبنى يكون أصله من الطين أو السكن في مبنى يكون عنوان ساكنه ( إننى غير مستطيع ) وتلك وضعية نفسية واجتماعية مهمة لابد من وضعها في الحسبان عند معالجة المشكلة العلمية والفنية .. وعليه .. يمكن القول بارتيارح بأن الأمر مازال قيد الدراسة والبحث ولم يصل لنهايات مبشرة حتى الآن.

كانت هذه النقاط الخمس هى الكواليس .. والآن نحن أمام المشهد المسرحى الماثل .. إذ أن الحاجة و العجز الرسمى يشجع بعض رؤوس الأموال وبعض العقول المجرمة للاستثمار في الأمر .. فما حقيقة الأمر؟!

العريفى .. كان ذلك اسم المحتال الوسيم الذى تلاعب بمواطنى هذا البلد وحاجتهم ومشاعرهم أيضاً .. إذ اكمل إجراءات تسجيل شركته اليوم .. وفى اليوم التالى كانت الاعلانات تملأ الحوجة .. حوجة التمويل العقارى .. وبدون دراسة كافيه و فى فترة وجيزة .. تجاوز عدد الضحايا العشرات .. وفاقت المبالغ المغتصبة المليارات .. والحاجة البالغه في بعض الأحيان تلهى عن التريّث والحذر.

ثم ظهرت شركات أخرى لتعمل في المجال .. مجال التمويل .. ولم يقتصر أمرها على تمويل التشييد فقط، بل تعدى ذلك لتمويل السيارات وغير ذلك، وقد تعاملت مع زبائنها بذات طريقة البنوك والمصارف وذلك برهن العقار المراد تشييده مع توفير الضمانات اللازمة. والفتره الزمنية المتاحة للسداد في الغالب عادية، اذ ان بعض المصارف تعطى ضعفها .. ولكن العامل المؤثر الذى أدى الى رواج أمرها ربما كان هو التساهل فى أمر قدرة العملاء على السداد المستقبلى، وذلك هو ما تشدّدت فيه المصارف بالرغم من وجود الضمانات الكافية التى تحفظ حقوق المصرف. وتلك مسألة هامة ومسؤولية أخلاقية لابد من مراعاتها حتى وإن أدت الى عدم تمويل العميل .. حتى لا تضيع حقوقه وتضيع الأموال ويضيع الزمن ولا يصل المشروع لنهايات. وهذه النقطة بالذات قد تكون واحدة من النهايات المتوقعه لكثير من عملاء هذا النوع، إذ أن شركات التمويل مهما كبر رأس مالها لن تكون بذات مقدرة المصارف على تحمّل تعثَّر العميل أو الصبر عليه فترات معقوله، فسرعان ما ستلجأ تلك الشركات الى التصرف في الرهن. وقد يحفظ هذا الإجراء بعض الحقوق للشركات، لكنها بالتأكيد لن تكون قادرة على الاستمرار في ظل تعثر قد يصل لنسب مقدرة من الأصل الكلى للعملاء .. أى فشل التجربة وضياع حقوق جميع الأطراف.

نموذج جديد قرأت إعلانه في الصحف اليومية .. وكان ذلك ما دفعنى دفعاً لكتابة هذه الكلمات، إذ نص الاعلان على أن الشرط الأساسى للتمويل في الحدود المسموح بها هو تحويل الملكية .. وهذا بالطبع ربما يكون مزيداً من الاحتياط من الشركة للحفاظ على حقوقها .. ولكنه في المقابل ظلم بيّن للطرف الآخر، إذ هناك استغلال للحاجة وإجبار لطالب التمويل على إبرام عقد بيع وتحويل ملكية غير حقيقى. فالمعاملة الاساسية ليست بيع ولا هى موجبة لتحويل الملكية، ولكن تحت الضغط يتم الرضوخ للأمر الواقع.

أمر آخر .. ماهى الضمانات المقابلة التى توفرها الشركات الممولة لانجاز الاعمال في الوقت المحدد وبالمواصفات المطلوبة؟. ومهدد آخر لهذه العمليات التى تتم بعيداً عن أعين الرقابه الشرعية أو القانونية وهو تكلفة العملية والمواصفات التى يتم بها التنفيذ، إذ هذه الشركات لمزيد من الكسب المادى تشترط أن يكون التنفيذ عبرها .. أى هى المقاول .. فإذا علمنا بأن مهندس تلك الشركة هو الذي يضع جداول الكميات للعمليات فهى بصورة أو بأخرى تكون هى الاستشارى ايضا .. وهى الممول بالطبع .. فهى التى تصدق و هى التى تصرف، ثم كل الاوراق بيدها ويكون طالب الخدمه متفرّجاً على أى عبث قد يتم.

شئ أخير .. هو مقدرة هذه الشركات على إستمرار الخدمة والقيام بكامل إلتزاماتها التمويلية، وماهى الجهة الرقابية التى يجب أن تطمئن على ذلك؟!

ظنى .. أن الأمر يحتاج لمزيد من التفصيل والبحث والتقصى من مراكز البحوث والدراسات .. ومزيد من الضوابط والإجراءات المنظمه من قبل السلطات المالية والقانونية ذات الصلة، ومزيد من الحرص والحذر وعدم التعجل من طالبى الخدمة.
سيدى محافظ بنك السودان .. سيدى رئيس مجلس تنظيم مقاولى الأعمال الهندسية .. سيدى رئيس مجلس تنظيم بيوت الخبرة للخدمات الاستشارية .. سيدى رئيس الجمعية الهندسية السودانية .. سيصلكم هذا الكتاب ان شاء الله .. وهذا جهدنا فيما نملك .. فأدركو الأمر بما أوتيتم من سلطة.

بقلم: م. مجاهد بلال طه